![]()  | 
| تفسير سورة البقرة | 
تفسير سورة البقرة
1= ( ألم )
تُقرأ: ألف لام ميم -مقابل قوله تعالى " الم نشرح " تُقرأ " ألم" وتستخدم للاستفهام -،وهي حروف هجاء متقطعة وفواتح افتتح الله بها بعض سور كتابه مثل " الر " و"المص " و" حم" و" طه" و"ص" و"ق" ، واختلف فيها السلف من التابعين في معانيها فقالوا أسماء السور ، وقيل قسم أقسم الله به ، وقيل لايوقف على معانيها وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ،
وقيل أنها تحدّ من الله عز وجل وأن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإن لم تقدورا عليه فأعلموا أنه من الله .
2= ( ذلِكَ الْكِتابُ لَا
رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ،
 أي هذا القرآن لا ريب ولاشك في أنه من عند الله ، وخصّت هدايته
للمتَّقين كما قال عز وجل في سورة فصلت : "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ ،وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى "فصلت 44 .
 أي هذا القرآن لا ريب ولاشك في أنه من عند الله ، وخصّت هدايته
للمتَّقين كما قال عز وجل في سورة فصلت : "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ ،وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى "فصلت 44 .ومن هم المتقون ذكرهم في الاية التالية :
3= ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ،
أي صفة المتقين هم الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ويؤمنون بالملائكة والنبيين .وإقامة الصلاة هو الاقبال عليها لأدائها بحركاتها
المخصوصة وفروضِها والواجبِ فيها، كما يقالُ: "أقام القومُ سُوقَهم".
وينفقون مما رزقهم الله فيؤدون الزكاة المفروضة في
اموالهم ، كما ينفقون على أهلهم وعيالهم ، ويتصدقون على السائل والمحروم ، كذلك
اختيار الطبري في أن الانفاق هنا عام .
ومعنى الانفاق : اخراج المال من اليد ،ومنه قولهم" نفقت الدابة" أي خرجت
روحها ، ومنه أيضا "المنافق " لأن الايمان خرج من قلبه .
4 = (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، 
يضيف الى صفة المتقين أنهم يصدقون بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه
وسلم من القرآن ، وما جاء به المرسلين من قبله ،
وبالحياة الآخرة عالمون علم اليقين .
5= (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ،
" أولئك " أي المتقين ، على نور من ربهم واستقامة ورشاد بتوفيق الله ، والمفلحون أي الفائزون بثواب الله وجنته ، قال عز وجل "وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلفَآئِزُونَ " النور وقال " لَا يَستَوِيٓ أَصحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصحَابُ ٱلجَنَّةِ أَصحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمُ ٱلفَآئِزُونَ " الحشر .6= (إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ) ،
لَمَّا ذَكَرَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالَهُمْ
ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَآلَهُمْ. وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَان ، و الكفر هو
الجحود والانكار وأصله الستر والتغطية ، والآية نزلت في فئة خاصة من الكفار الذين
علم الله أنهم لايؤمنون وهم أئمة الكفر والعتاة ، فلا ينفعهم النذير ، كأبي جهل
وغيره قتلوا يوم بدر وماتوا وهم كفار ، لكن من الكفار من تاب الله عليه وآمن ونفعه
نذير النبي صلى الله عليه وسلم  له .ولفظ " سواء" يعني التساوي فانذارهم يستوي مع عدم انذارهم .
7= (خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)
يبين الله سبب عدم ايمان هؤلاء الكفار وعدم وانتفاعهم
بالنذير ، حيث ختم على قلوبهم وأسماعهم فلا يدخلها شيء ولا تعيه وتظل قلوبهم مغلقة
على ما فيها من كفر ، قال عز وجل على لسان الكفار " قَالُواْ ياشُعَيبُ
مَا نَفقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ" هود ،فإن قيل كيف يطلب الله منهم الايمان وهو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم ؟
الجواب : أن هذا الختم من الله هو جزاء لتكبرهم وشدة فسوقهم وعنادهم ، قال عز وجل في اليهود " فَبِمَا نَقضِهِم مِّيثَٰقَهُم لَعَنَّاهُم وَجَعَلنَا قُلُوبَهُم قَٰاسِيَةٗ " المائدة 13 .
8 = " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" ،
 لما ذكر
الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم،
إذ الكفر والإيمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي
الإيمان عنهم بقوله الحق:" وما هم بمؤمنين". ففي هذا رد على الذين زعموا
إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى:" فأثابهم
الله بما قالوا" [المائدة: 85] ،
والحق أن القول والشهادة قد يكون صاحبها صادقا وقد يكون كاذبا ، قال عز وجل في هذا
الصنف من الناس " إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) المنافقون 1 ، ثم في قوله (يَقُولُونَ
بِأَفوَٰهِهِم مَّا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم وَٱللَّهُ أَعلَمُ بِمَا
يَكتُمُونَ ) ال عمران 167. 
- قلت زعم بعض العلماء أن النفاق لم يكن في مكة وظهر في المدينة ، واحتجوا أن سورة
البقرة نزلت في المدينة ،وهذا فيه نظر ، فالمنافقون أطياف وطبقات من كل الطوائف والقبائل،
إنما اشتد النفاق وكثر في المدينة ، فالنفاق مرض وُجِدَ قديما ولا يزال حديثا ،
 فمن المنافقين من لم يدخل الايمان في قلبه
قط ولكنه كان له مأرب ما في ادعاء الاسلام مثلهم كمثل طائفة من اليهود أظهرت
الايمان ثم رجعت ، 
ومنهم من دخل الايمان ثم افتتن في دينه وارتاب وشك فقد كان ايمانه ضعيفا ، قال عز
وجل في حال المنافقين يوم القيامة لما طلبوا أن يقتسبوا من نور المؤمنين " يُنَادُونَهُم
أَلَم نَكُن مَّعَكُم قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُم فَتَنتُم أَنفُسَكُم
وَتَرَبَّصتُم وَٱرتَبتُم وَغَرَّتكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمرُ ٱللَّهِ
وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلغَرُورُ " الحديد ، 
اذن فالمنافقون فريق من المؤمنين، في ايمانهم وهن ومرض وشك .
وفي الاية الفاصلة قال تعالى " أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُترَكُوٓاْ أَن
يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن
قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعلَمَنَّ ٱلكَٰاذِبِينَ"
 العنكبوت .
ثم قوله تعالى بعدها " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ
فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَئِن
جَآءَ نَصر مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُم أَوَلَيسَ ٱللَّهُ
بِأَعلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلعَٰالَمِينَ ، وَلَيَعلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَلَيَعلَمَنَّ ٱلمُنَافِقِينَ 
" وسورة العنكبوت نزلت في مكة .
9 = (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ
أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)
  
  أي يظهرون لرسول الله والمؤمنين أنهم
صادقين في ايمانهم وأنهم معهم ، قالوا ودلّ هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله
حقا إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يُخْدع ، وأنه تعالى قادر على فضحهم واظهار حقيقتهم
في الدنيا ، لكنهم في اليوم الآخر سيجدون انفسهم مع الكافرين في جهنم .10 = (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
 المرض قد يكون الكفر أو الجهل أو الريبة
والحيرة  أو ضعف النية والعزم ، قال فخر
الدين الرازي " ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته
وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعا من هذه الآثار كانت تلك
الصفات أمراضا للقلب".
قلت لذا يجب ان يخاف المؤمن على نفسه من النفاق ويحصن ايمانه وقلبه من قلة العلم بالله
وبالدين وبصفات المؤمنين وصفات المنافقين، أو تقصيره في العبادة والطاعات والذكر
لئلا يطرأ عليه عارض من عوارض النفاق .
قوله "وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ " وعد الله المنافقين بعذاب موجع
كما قال " ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار" ، عقابا على تكذيبهم
لرسول الله وما جاء به وعلى كذبهم وعدم صدق قولهم . 
11 = (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ( أَلَا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) .
صفة المنافقين هو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وهذا هو الافساد في
الأرض ، مقابل صفة المؤمنين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر  وهو الاصلاح في الأرض ، والمعروف كل ما أمر
بالله والمنكر ما نهى عنه .
قوله " أَلَا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ " كقوله عز
وجل " أفمن له زين له سوء عمله فرآه حسنا " فاطر 8 . 
13=  ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ )
واذا قيل للمنافقين اجعلوا ايمانكم مقرونا بالاخلاص واليقين وليس ايمان
يخالطه الشك والمرض مثل ايمان المؤمنين الصادقين وهم المهاجرين والأنصار .والسفيه هو الجاهل الأحمق ، والسفه خفة العقل وقلة
العلم .
14 = (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
) ،
واذا تقابلوا وجلسوا مع المؤمنين أكدوا انهم مؤمنين صادقين ، كما ذكر فخر
الدين الرازي أن المراد بقولهم آمنا ،أخلصنا
بالقلب كما قال عز وجل " يَحلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُم لِيُرضُوكُم
"  التوبة 62 وقوله " اتخذوا ايمانهم جُنّة " المنافقون .قوله " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ " واذا انفردوا بكبرائهم ورؤوس النفاق ، قالوا انا معكم على ما أنتم عليه من
الشرك والكفر ، كما أخبر عنهم تعالى " مُّذَبذَبِينَ
بَينَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ " النساء
144 ، وإنما نحن نلعب على محمد وصحبه .
15 = (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
 يخدع الله المنافقين ويستهزئ بهم ، فييسر لهم بعض أعمال
المؤمنين كالصلاة والحج ويتحلون بمظهرهم حتى اذا جاءوا يوم القيامة أحبط الله أعمالهم وحال بينهم وبين مأوى المؤمنين
وأدخلهم النار مع الكافرين .
قال ابن جرير الطبري : واللهُ لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْءُ، والمعنى عندَهم
أن المكرَ والهُزْءَ حاقَ بهم.
و"يمدهم " أي ويزيدهم ظلما الى ظلمهم الكبير، وهم حائرين يتخبطون في ظلمات الضلال .
16 = (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ،
قال مجاهد في قوله ( اشتروا الضلالة بالهدى ) "آمنوا ثم كفروا" ،وعبر عن استبدالهم الايمان بالكفر بلفظ الشراء ،
( فما ربحت تجارتهم ) فالمنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى قد خسروا ولم يربحوا ، لأنَّ الرابحَ من التُّجارِ المستبدِلُ من سلعتِه المملوكةِ عليه بدلًا هو أنفسُ من سلعتِه أو أفضلُ من ثمنِها الذي ابتاعَها به، فأما المستبدِلُ من سلعتِه بدلًا دونَها، ودونَ الثمنِ الذي ابتاعَها به، فهو الخاسرُ في تجارتِه لا شكَّ وكذلك المنافق .
17 = (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ )
  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ (18 )
قوله ( مثلهم كمثل ) ضرب الله الأمثال في كتابه ليبين ويوضح المعنى الخفي الغائب فيشبهه بالمادي الحاضر ،ولأثرها في القلوب الأكبر من ذكر وصف الشيء في نفسه .
ولفظ " المَثَلُ " وجمعه الأمثال ، قد يراد به تشبيه الشيء بشيء آخر ،
وقد يراد به الحجة والبرهان .
يشبه الله المنافقين بشرائهم الهدى بالضلاله بالذي استوقد نارا بطلبهم الإسلام ، فلما
أضاءت ما حوله وأنس بالحق وعلم الخير والشر ،فبينا هو كذلك انطفأت ناره وذهب نورها
وصار في ظلمة الضلال لا يبصر ولا يهتدي ، ثم هو أيضا لا يسمع الخير، أبكم لا ينطق الحق
، وأعمى لا يرى طريق الحق، فكيف يعود ويرجع الى حال الهدى والنورالذي كان عليه من
قبل ؟
وقال  فخر الدين الرازي : "والتشبيه
هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ،ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا
ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في
وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] .
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان
قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم،  ولم يستحضر
ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون:
3]؛ 
فلهذا وجه ابن جرير هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا،
ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة".
قلت ، لم يقل الله تعالى( ذهب بالنار )، بل قال ذهب (بنورهم ) وهو أثر
النار ، فالأصل هو بقاء النار أي كتاب الاسلام لكن الذي ذهب هو أثره في نفوس
المنافقين  ، لذلك قال تعالى عنه "
هدى للمتقين " المخلصين .
19 = (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ )،
(20 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب ونوع آخر من المنافقين،
 وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة
أخرى،   فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم مثل الصيب
في السماء .
والصيب: المطر ، نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. 
{ وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد
والفزع، كما قال تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ  هُمُ الْعَدُوُّ  } [المنافقون: 4]
والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور
الإيمان؛ 
ولهذا قال: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }
 أي: ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله
محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته .
- والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد .
- { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }.
 يقول: يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات
المنافقين.
- { كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا }
 أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا  به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم
فوقفوا حائرين . 
وهكذا يكون المنافقون  يوم القيامة عندما يعطى
الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من
ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة
ويقف أخرى.
 ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من
المنافقين.
وقال الله في حق المؤمنين الصادقين : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ،
 يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم: 8] .
 قال ابن كثير:  المنافقون صنفان: منافق خالص،  ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين،  عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
 ("ثلاث من كن فيه كان منافقًا
خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها : من إذا حَدّث
كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " 
).
واستدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق. إما
عَمَلي لهذا الحديث ، 
أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء .
 قوله تعالى ( وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ
)  والمعنى محيط ، بأنهم في علمه وقدرته
وقبضته ، ومنه قوله ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ") [الكهف: 42]. وقَوْله تَعَالَى:"
إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ  " [يوسف:
66]
قولِه"وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ " لو
شاء أذْهَبه مِن المنافِقِين، عقوبةً لهم على نفاقِهم وجعل أيديهم في آذانهم ،
وعيداً مِن اللهِ لهم، كما توَعَّدهم في الآيةِ التي قبلَها بقولِه: {وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} واصفاً بذلك جلّ ذكرُه نفسَه أنه المُقْتَدِرُ عليهم
وعلى جمعِهم، لإحْلالِ سُخْطِه بهم، وإنزالِ نِقْمتِه عليهم، ومُحَذِّرَهم بذلك
سَطْوتَه، ومُخَوِّفَهم عقوبتَه، ليَتَّقُوا بأسَه، ويُسارِعوا إليه بالتوبةِ.
21 = (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (22 )
يخاطب الله الفريقين اللذين أخبر عنهما من الكافرين والمنافقين أن يعبدوا ربهم أي يوحدوه ، ويفردوا له الطاعة والخضوع ، ودليله قوله بعدها " فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا" ، قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم ، سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم، وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) يُذكِّرُ ربّنا تعالى أسباب افراد العبادة للرب بأنه هو الذي خلقهم واوجدهم من عدم والذي له النعم العظيمة والذي هيأ وجعل لهم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ،أي سقفا وأنزل من السماء ماء فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقًا لهم ولأنعامهم ،
"فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا" فلا تجعلوا له شركاء ، " وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أي تعلمون أن هؤلاء الأنداد لم يخلقوا الأرض وليس لهم شرك في السموات ولم يشاركوا في انزال المطر والماء من السماء .
23 = (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
 24 ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ،
 ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا المشركين والكافرين من اهل الكتاب : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.والشهداء الأعوان، والذين يشهدون لهم أنهم جاءوا بمثل هذا القرآن، و قد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ، ومرات عديدة في مكة والمدينة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) "ولن": لنفي التأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه -أيضًا-معجزة أخرى، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء،كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها.
وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الوَقُود، هو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]
وقوله تعالى ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ظَاهِرُهُ أَنَّ غير الكافرين لا يَدْخُلُهَا وليس كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْمُذْنِبِينَ ، نحو قوله تعالى " إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلمُنَٰافِقِينَ وَٱلكَاٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا " النساء 140 .
25= (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )،
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عطف يذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، و تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها.(كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) كلما اعطوا من ثمار أشجار الجنات قال أهل الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا.
(وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب،
وقال زيد بن اسلم: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به متشابها، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.
(ولهم فيها أزواج مطهرة ) أي للرجال أزواج: طهرهن الله من كل بول وغائط وقذر وحيض، ومن كل مأثم.
( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) خالدون: دوام البقاء في الجنة لا يموتون .
26 = (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ،يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)،
لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال الكافرون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.قال فخر الدين الرازي : وأما قولهم: ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، قلنا هذا جهل، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير ،
و الكل عنده بمنزلة واحدة ولم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلا لعباده من الصغير، بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب، والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
كما أن الله تعالى ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة.
( لَا يَسْتَحْيِي) أي لا يمتنع ولا يخشى . وقوله (يضرب مثلاً) أي يقيم ويجعل ويورد مثلاً أي شبهاً ووصفاً ، والضرب الإقامة والجَعْل، ومنه الضرائب وفي اللسان: أَضْرَبَ الرجلُ في البيت أَقام .
قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي يعلمون أن هذا المثل حق ، قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: "وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ".
وقوله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا) ينكرون المثل ولا يفهمونه .
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) أي بالمثل يضل المنافقين، (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به (وَيَهْدِي بِهِ) يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) أي الخارجين على طاعة الله ويشمل الكافرين والمنافين ، والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، قال تعالى " "فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلجِنِّ فَفَسَقَ عَن أَمرِ رَبِّهِ"
27= (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ )
وهذا نعت للفاسقين الذين نقضوا عهد الله حيث قال " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا" [الأعراف: 172] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به.وقوله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
28= (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) ،
أي كيف تنكرون توحيد الله وتعبدون غيره ،(وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، نطفا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها، وإحياؤه إياها جل ذكره، نفخه الأرواح فيها، وإماتته إياهم بعد ذلك؛ قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك؛ نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور يوم البعث .
(ثم اليه ترجعون ) أي ثم الى الله تحشرون فيجازيكم بأعمالكم .
29= (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ،
أي كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم، وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا، أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا من أنهار وأنعام وزرع وأشجار وغيرها، فكيف يعجز عن إعادتكم.قوله تعالى:" ثم استوى الى السماء" و" ثم" لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه.
وعن الربيع بن أنس: {ثم استوى إلى السماء} يقول: ارتفع إلى السماء.
وقال القرطبي : والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى:" فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" [المؤمنون: 28]، وقال" لتستووا على ظهوره" [الزخرف: 13]،
وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه ،قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى:" الرحمن على العرش استوى " [طه: 5] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء! أخرجوه.
وقال الطبري : وأولى المعاني بقول الله: {ثم استوى إلى السماء فسواهن}: علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات.
وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل وعز إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبع سماوات، كما قال جل ثناؤه: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} [فصلت: 11].
فالاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسويها سبع سماوات.
قوله تعالى: (وهو بكل شيء عليم) أي بما خلق وهو خالق كل شي، فوجب أن يكون عالما بكل شي، وقد قال:" ألا يعلم من خلق " [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته.
30 = (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ،
قال ابن كثير : يخبر الله تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي: واذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك ،{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام: 165] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل: 62].وقال { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم: 59].
وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حَسُنَ قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }، فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون ،
أو أنهم قاسوهم على من سبق ...فعن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال:
كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون" .
قلت :الخليفة في الأرض هو ساكنها ومعمرها ومالكها وعلى رأسهم حاكمها وقاضيها .
- وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين ،
وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا.
قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا } وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك،
يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك .
أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟
(قلت.في اللسان : قال الزجاج: معنى "نُقدس لك" أَي نُطهِّر أَنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أَطاعك نُقَدِّسه أَي نطهِّره ومن هذا قيل للسَّطْل القَدَس لأَنه يُتَقدَّس منه أَي يُتَطَّهر والقَدَس بالتحريك السَّطْل بلغة أَهل الحجاز لأَنه يتطهر فيه)
قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛
فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون.
31 = (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) " علّم" معناه عرف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة. ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام،قال سعيد بن جبير: "إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي" ، وأديم الأرض هو وجهها .
اختلف المفسرون في الأسماء التي علمها آدم ،وقلت ربما أنها كانت أسماء الأنبياء والرسل والصالحين من ذريته لتكون أبلغ واقوى دلالة في استحقاق ذرية آدم الخلافة في الأرض .
قوله ( ان كنتم صادقين ) في قيلكم أنى إن جعلت خليفتى في الأرض من غيركم، عصانى ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها، أطعتمونى واتبعتم أمرى، بالتعظيم لى والتقديس.
32= (قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ،
قال ابن كثير : هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى، ولهذا قالوا: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.قلت وفي هذا رد من ادعى شيئا من علوم الغيب من الجن والكهنة وغيرهم أو المستكبرين من علماء البشر مثل ماقال قارون لقومه " إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلمٍ عِندِيٓ " .
33 = (قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) ،
أمر الله آدم أن يخبر الملائكة بالأسماء التي علمها الله اياه ، فلما أخبر آدم الملائكة بأسماء الذين عرضهم عليهم،
قال الله عز وجل ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالما بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه.
"وأعلم ما تبدون" أراد به قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ، وقوله: وما كنتم تكتمون" قال قتادة : قال: أسروا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه.
- 34 = (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ )
قوله تعالى: (وإذ قلنا) أي واذكر، وقالوا كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام ، كما قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا} [يوسف: 100] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا ، ورجح هذا القول الرازي وابن كثير.سؤال : كيف دخل ابليس في الخطاب في قوله تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ؟
دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه -وإن لم يكن من عُنْصرهم -إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم؛
فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر.
وظن البعض أن ابليس كان من الملائكة وهذا غير صحيح قال تعالى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف: 50 ].
قال ابن عباس : كان إبليس من خُزّان الجنة وكان يدير أمر السماء الدنيا - ذكره ابن الجوزي .
قوله تعالى: (أبى) معناه امتنع من فعل ما أمر به ، قوله تعالى: (واستكبر) الاستكبار: الاستعظام فكأن ابليس كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته لذا قال تعالى بعدها (وكان من الكافرين) قيل: أي صار من الكافرين ،وكذلك كل من أنكر أمرا لله واستكبر فحكمه انه كافر .
35 = (وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ،
قوله " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " قالوا أن هذا أمر اسكان الجنة يشتمل على الاباحة والتكليف فأذن لهما السكنى والانتفاع بما فيها والتكليف بالمنع من الأكل من الشجرة ، ولفظ الاسكان يدل على البقاء لفترة معينة وليس للدوام ،ثم قالوا أن الله تعالى لما أمر الكل بالسجود لآدم وأبى إبليس السجود صيره الله ملعونا ثم أمر آدم بأن يسكنها مع زوجته، واختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه وكيف خلقت ، قال تعالى " ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا " .
وقيل عن الجنة أنها كانت بستان في الأرض ، والصواب أنها في السماء لأن جنان الأرض تحتاج الى العمل والرعاية كما أنها لا تكسب الكسوة وتمنع العري ، ولكن ليس بالضرورة ان تكون هي دار الثواب الموعودة بل بينهما اختلاف ، فدار الثواب جميع ما فيها مباح ولا يؤذي ، ولا يدخلها عاصي كما دخل ابليس وغوى آدم وزوجه مشافهة .
" وكلا منها رغدا " أي وكُلَا مِن الجنةِ رِزقًا واسعًا هَنيئًا مِن العيش لا تجوعا فيها ولا تعرا ، ثم كلفهما ربهما بالنهي عن الأكل من الشجرة واختلفوا في الشجرة فقيل هي السنبلة وقيل العنب .
قوله " فتكونا من الظالمين " معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما، ألا تراهما لما أكلا " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا "[الأعراف: 23] ، والظلم في أنه بدت لهما سواءاتهما وخروجهما من الجنة.
36= (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) ،
وقوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها) يصح أن يكون الضمير في قوله: (عنها) عائدا إلى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزالهما، أي: فنحاهما.ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين، وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة (فأزلّهما) أي: من قبيل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام (فأزلهما الشيطان عنها) أي: بسببها، كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك؛ ولهذا قال تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
والزلل : يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء، فيزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع ، قال تعالى "فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعدَ ثُبُوتِهَا" النحل 94 ،
(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) الخطاب للأدم وحواء وابليس ، انزلوا من الجنة الى الأرض ، والمستقر ، أي: قرار، ومتاع : المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وأرزاق (إلى حين) أي: إلى وقت مؤقت ومقدار معين من الزمن ، ثم تقوم القيامة.
37 = (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
واللهَ عز وجلّ هو التوابُ على مَن تاب إليه مِن عبادِه المُذْنبِين مِن ذنوبِه، التاركُ مُجازاتَه بإنابتِه إلى طاعتِه بعدَ معصيتِه بما سلَف مِن ذنبِه.
و معنى التوبةِ مِن العبدِ إلى ربِّه هو إنابتُه إلى طاعتهِ والرجوع عن معصيته، وأوْبتُه إلى ما يُرْضِيه، بتركِه ما يَسْخَطُه مِن الأمورِ التى كان عليها مُقيمًا مما يَكْرَهُه ربُّه ، فكذلك توبةُ اللهِ على عبدِه، هو أن يَرْزُقَه ذلك، ويؤوبَ له مِن غضبِه عليه إلى الرضا عنه، ومِن العقوبةِ إلى العفوِ والصَّفْحِ عنه.
38= (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )(39) ،
في إعادة ذكر الهبوط قولان:أحدهما: أنه أعيد لأن آدم أهبط إِهباطين، أحدهما من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. والثاني: أنه إِنما كرر الهبوط توكيداً.
وقوله تعالى: فَأَمَّا، قال الزجاج: هذه «إِن» التي للجزاء، ضمت إليها «ما» ، والأصل في اللفظ «إِن ما» مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام.
والمعنى فإما يَأْتِيَنَّكم يا معشرَ مَن أُهْبِطَ إلى الأرضِ مِن سمائى -وهو آدمُ وزوجتُه وإبليسُ- إما يَأْتِيَنَّكم منى ييانٌ مِن أمرِى وطاعتى ورَشادٌ إلى سبيلى ودِينى، فمَن اتَّبَعه منكم فلا خوفٌ عليهم من عذاب جهنم ولا هم يَحْزنون ، وإن كان قد سلَف منهم قبلَ ذلك إلىَّ معصيةٌ وخلافٌ لأمْرى وطاعتى،
والذين كفروا وجحَدوا آياتى وكتبي وكذَّبوا رُسُلى. وآياتُ اللهِ حُجَجُه مأدلَّتُه على وحدانيَّتِه وربوبيَّتِه، وسميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات أي: عجب من العجائب {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}، يعنى: أهلُها الذين هم أهلُها دونَ غيرِهم، المُخلَّدون فيها أبدًا إلى غيرِ أمَدٍ ولا نهايةٍ.

تعليقات: (0) إضافة تعليق