![]() |
بلاغة الرافعي |
مقدمات كتاب اعجاز القرآن
أقول : أضحت حياتنا الفكرية ضحلة ، وأنهار ابداعاتنا ملوثة بنفايات بشرية ،
فترى النفوس الزكية على شواطئها ظمأى ، أما الخبيثة فهي في وسطها سابحة مروية .
والمجتهدين أموات في القبور ، والجهلة أحياء في القصور.
ففي هذا المقام نطرح بعضا من ميراث المجتهدين المفكرين الأدباء ، وتحفة من تحف تراثنا الأدبي العربي :
وهي مقدمات كتاب مصطفى الرافعي " اعجاز القرآن" ، للمصنف و سعد زغلول باشا والأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار (مختصرة ) بأسلوب أدبي راق دافء مستمد من مذاق القرآن وعباراته ،
وجلّ المشترك الذي في المقدمات في أوصاف اقوام في حياتهم ينتحلون العلم والفكر والاصلاح في مجالات شتى، نعرف مثلهم نحن الآن بأسمائهم وزيّهم وهيئتهم وحديثهم ، وهم أهل جهل وتدليس وكذب ورذيلة .
نسأل الله السلامة والنجاة منهم واسعافنا بخير منهم فهو السميع البصير .
كلمة سعد زغلول :
حضرة المحترم الفاضل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي.
تحدى القرآن، أهل البيان في عبارات فارغة محرجة ولهجة واجزة مرغمة ، أن يأتوا بمثله أو سورة منه ، فما فعلوا ، ولو قدروا ما تأخروا ، لشدة حرصهم على تكذيبه ومعارضته بكل ما ملكت أيمانهم ، واتسع له إمكانهم .
هذا العجز الوضيع بعد ذلك التحدي الصارخ ، هو أثر تلك القدرة الفائقة ، وهذا السكوت الذليل بعد ذلك الاستفزاز الشامخ، هو أثر ذلك الكلام العزيز .
ولكن أقواما أنكروا هذه البداهة وحاولوا سترها ، فجاء كتابكم "إعجاز القرآن" مصدقا لآياتها مكذبا لإنكارهم ، وأيد بلاغة القرآن واعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها ، في بيان مستمد من روحها كأنه تنزيل من التنزيل ، أو قبس من الذكر الحكيم .
فلكم على الاجتهاد في وضعه والعناية بطبعه شكر المؤمنين وأجر العاملين ، والاحترام الفائق .
سعد زغلول 1926 م .
كلمة محمد رشيد رضا :
وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله ، الصادين عن دين الله ، قد سلكوا في الكفر والالحاد شعابا جُددا، والتشكيك في الدين طرائق قِددا ، منها الطعن في اللغة العربية وآدابها ، والتماري في بلاغتها وفصاحتها ، وجحود ماروي عن بلغاء الجاهلية من منظوم ومنثور ، وقذف رواتها بخلق الافك وشهادة الزور ، ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين ، إلى هجر أساليب الأولين ، واتباع أساليب المعاصرين ،
ومنهم الذين يدعون الى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن الخاصية ، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الاسلام وعن الايمان باعجاز القرآن ،
فإن من أوتي حظا من بيان هذه اللغة ، وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها ، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته ، وبأسلوبه في نظم عباراته ، وصد صرح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتابه "الخواطر الحسان" .
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين الاعجاز ومواضحه، وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه ،و ددت لو مد هذا البحث مد الأديم ، بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم ، فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات في طولها وقصرها ، وقوافيها وفواصلها ، ومناسبة كل منها لمواضيع الكلام ، واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام .
قال شيخنا الامام رحمه الله تعالى : " إن لكلام الله تعالى أسلوبا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج القرآن بلحمه ودمه ، وأما الذين لايعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون " .
1346 م
مقدمة الرافعي :
الحمد لله بما أنعم سبحانه على الاسلام وأهله .
وأما بعد ، فهذه هي الطبعة الثالثة من نسخ كتابي هذا تظهر اليوم وإن فينا فريق الطاعة فريق المعصية ، ومع أهل اليقين عصبة الشك ، ومع طائفة الحقيقة دعاة الشبهة ، ومع جماعة الهداية أفراد الضلالة ، يتخذون العلم دربة لإفساد الناس وتحليل عقدهم الوثيقة وتوهين أخلاقهم الصالحة القوية ،
ويزعمون للعلم معنىً إن يكن بعضه في العلم فـأكثره في الجهل ، وإن يكن له صواب فَلَهُ خطأ يغمر صوابه ، وإن كان فيه ما يرجع الى عقول العلماء ففيه كذلك ما يرجع الى عقولهم هم ، ناهيك بها عقولا ضيقة معتلة غلب عليها الكيد وأفسدها التقليد ونزع بها لؤم الطبع شرّ منزع ، حتى استهلكها ما أوبقهم من فساد الخلق،
ومايستهويهم من غوايات المدنية ، فجاءونا في أسماء العلماء ولكن بأفعال أهل الجهل ، وكانوا في العلم كالنبات الذي خبث ، لايخرج في الأرض الطيبة الا خبيثا وإن كان زكا ونما وجرى عليه الماء وانبثت فيه الشمس وانقلب ناضرا يرف رفيفا ، لأن هذه العناصر إنما قوتها وطيبها لإخراج ما فيه كما هو نكدا أو خبثا .
وإنك لن تجد سيماهم إلا في أخلاقهم فتعرفهم بهذه الأخلاق فستنكرهم جميعا ، ولتعلمن عليهم كل سوء ، ولترينهم حشو أجسامهم طينا وحمأة ، في زعم كذب يسمى لك الطين طيبا ، والحمأة مسكا ، ولتجدنهم أحدهم وما في السفلة أسفل منه شهوات ونزغات وإنه مع ذلك ليزور عليك ويلبس عليك ، فما فيه من لون عندك يعيبه إلا هو عنده تحت لون يزينه ، ولا رزيلة تقبحه إلا هي في معنى فضيلة تجمله ،
فخذ منه الكذب في فلسفة المنفعة ، والتسفل في شعاع الغريزة ، والوقاحة في زعم الحرية ، والخطأ في علة الرأي ، والالحاد في حجة العلم ، وفساد الطبيعة في دعوى الرجوع الى الطبيعة ، وبالجملة خذ أفعالهم فسمها غير أسمائها وانحلها غير صفاتها ،
واكذب بالألفاظ على المعاني وقل علماء ومصلحون وأنت تعني ما شئت الا حقيقة العلم والاصلاح .
أيتها الحصاة !! ما يسخر منك الساخر بأكثر من أن يجلوك على الناس في علبة جوهرة .
وأنت أيها القارئ فلا يغرنك منهم من يلبس العمامة يتسم بسمة الشرع ، ثم يذهب أين ذهب وشعلة الجحيم العلمية تدور في رأسه تهفو من ها هنا وهنا ...
ومن تراه في ثياب المعلم يتلبس بالفشء كما يتلبس الداء بعضو حي ، لايدع أبدا أن يغمز غمزة ويبتلي بما فيه من ضعفة وبلاء ، فلا يصلح الا على إفساد الحياة ، ولايقوى إلا على إضعاف القوي ، ولا يعيش إلا على عذاء من الموت ، كأن هذا المعلم- أخزاه الله- كان من قبل دودة في قبر ثم نفخه الله إنسانا يجعله فيما يبلو به الخلق ، ويضرب الحياة به ضربة انحلال وبلى وتعفن.
ومن تراه قد سخر به القدر أشد سخرية قط فضغطه في قالب من قوالب الحياة المصنوعة فاذا هو في تصاريف الدنيا كاتب مرشد متنصح ينفث دخان قلبه الأسود ويعمل كما تعمل الأعاصير على اهداء الوجوه والأعين والأنفاس صحفا منتشرة من غبار الأرض ، إن لم تكن مرضا فأذى ، وإن لم تكن أذى فضيق، وإن لم تكن ضيقا فلن تكون شيئا مما يساغ أو يُقبل أو يُحب ..
يحتجون بالعلم ، وهذا العلم لا ينفي شبهة ولا يحلّ مسألة مما هي فوق العقل ، ولابد ان يكون للعقل (فوق) وإلا كان هو تحت المادة وَسطَت هي عليه وأصبحت الحياة بلا غاية والانسانية بلا معنى ، وهذا العلم كيف اعتبرته إن هو إلا ترجمة جزء من الوجود إلى الكلام والعمل ،فهو لايُوجِد شيئا غير موجود ،وإنما يكشف عن الموجود ويتسع في العبارة عنه ويحاول جعله كلا بنفسه ، وما هو إلا ظاهرة من جزء من كل مما وراء الكل ،
فمن ثم كان من طبيعة البحث العلمي أن يستجر الفاسد الصحيح ، ويخلط اليقين بالظن ، ويضرب المقطوع به في المشكوك فيه ، ومتى استقام هذا فصار عملا ، واتسق فرجع نظاما خرج الى تشبيه الباطل بالحق، وتلبيس الخطأ بالصواب ، فيكون من العلم ما هو علم وقت جهل وقت بعده ، ويعد منه ما هو حق في زمن على حين أنه شبهة زمن يتلوه ، وهكذا ترى في الزمن العقلي شبيها مما يتعاور الزمن الحسي من تقلب الليل والنهار فلا يزال لكل أبيض تليه الأسود ، ولكل أسود تليه الأبيض ، إذ كان لابد من طبيعتين إحداهما تجمع والأخرى تفرق ، ومن قوتين إحداهما للتمثيل بين المتشابهات والأخرى للتضريب بين المتناقضات .