القائمة الرئيسية

الصفحات

مَنْزِلَةُ الِاعْتِصَام ومَنْزِلَةُ الفِرَار .

منازل اياك نعبد - الاعتصام

 



تهذيب مدارج السالكين "  الاعتصام والفرار


1- مَنْزِلَةُ الِاعْتِصَامِ

ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ الِاعْتِصَامِ.

نوعي الاعتصام :

وَهُوَ نَوْعَانِ: اعْتِصَامٌ بِاللَّهِ، وَاعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]
وَقَالَ {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] .

معنى الاعتصام وبيانه :

وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُكَ، وَيَمْنَعُكَ مِنْ
الْمَحْذُورِ وَالْمَخُوفِ،
فَالْعِصْمَةُ: الْحِمْيَةُ، وَالِاعْتِصَامُ: الِاحْتِمَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقِلَاعُ: الْعَوَاصِمَ، لِمَنْعِهَا وَحِمَايَتِهَا.

وَمَدَارُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَاتَيْنِ الْعِصْمَتَيْنِ.

فَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالِاعْتِصَامُ بِهِ يَعْصِمُ مِنَ الْهَلَكَةِ،

فَإِنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ كَالسَّائِرِ عَلَى طَرِيقٍ نَحْوَ مَقْصِدِهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ، وَالسَّلَامَةِ فِيهَا، فَلَا يَصِلُ إِلَى مَقْصِدِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَهُ، فَالدَّلِيلُ كَفِيلٌ بِعِصْمَتِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّلَاحِ الَّتِي بِهَا تَحْصُلُ لَهُ السَّلَامَةُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا.

فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يُوجِبُ لَهُ الْهِدَايَةَ وَاتِّبَاعَ الدَّلِيلِ،
وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ، يُوجِبُ لَهُ الْقُوَّةَ وَالْعُدَّةَ وَالسِّلَاحَ، وَالْمَادَّةَ الَّتِي يَسْتَلْئِمُ بِهَا فِي طَرِيقِهِ.

معنى الاعتصام بحبل الله :

وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، بَعْدَ إِشَارَتِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: هُوَ الْقُرْآنُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةُ مَنْ تَبِعَهُ»
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ «هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ»
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا تَفَرَّقُوا كَمَا تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
«إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ.

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى طَاعَتِهِ، مُرَاقِبًا لِأَمْرِهِ.

وَيُرِيدُ بِمُرَاقَبَةِ الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِالطَّاعَةِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا وَأَحَبَّهَا، لَا لِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ، أَوْ لِعِلَّةٍ بَاعِثَةٍ سِوَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ فِي التَّقْوَى: هِيَ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَتَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ.
وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالِاحْتِسَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» " وَ " «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ» " فَالصِّيَامُ وَالْقِيَامُ: هُوَ الطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ: مُرَاقَبَةُ الْأَمْرِ. وَإِخْلَاصُ الْبَاعِثِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الْآمِرَ لَا شَيْءَ سِوَاهُ. وَالِاحْتِسَابُ: رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ.
فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يَحْمِي مِنَ الْبِدْعَةِ وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَضل الاعتصام بالله:

وَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِهِ فَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالِامْتِنَاعُ بِهِ، وَالِاحْتِمَاءُ بِهِ، وَسُؤَالُهُ أَنْ يَحْمِيَ الْعَبْدَ وَيَمْنَعَهُ، وَيَعْصِمَهُ وَيَدْفَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ ثَمَرَةَ الِاعْتِصَامِ بِهِ هُوَ الدَّفْعُ عَنِ الْعَبْدِ، وَاللَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَدْفَعُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا اعْتَصَمَ بِهِ كُلَّ سَبَبٍ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْعَطَبِ، وَيَحْمِيهِ مِنْهُ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَيْدَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَشَرَّ نَفْسِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَ أَسْبَابِ الشَّرِّ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَتَمَكُّنِهِ، فَتُفْقَدُ فِي حَقِّهِ أَسْبَابُ الْعَطَبِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَاتِهَا وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُ قَدَرَهَ بِقَدَرِهِ، وَإِرَادَتَهُ بِإِرَادَتِهِ، وَيُعِيذُهُ بِهِ مِنْهُ.

2- مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]
وَحَقِيقَةُ الْفِرَارِ: الْهَرَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِرَارُ السُّعَدَاءِ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ.

فَفِرَارُ السُّعَدَاءِ: الْفِرَارُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ: الْفِرَارُ مِنْهُ لَا إِلَيْهِ.

وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَفِرَارُ أَوْلِيَائِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] : فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.

وعن صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: ( هُوَ الْهَرَبُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:
فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا، وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً). يُرِيدُ بِ " مَا لَمْ يَكُنْ " الْخَلْقَ، وَبِ " مَا لَمْ يَزَلْ " الْحَقَّ.

وَقَوْلُهُ: (فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا.) 
الْجَهْلُ نَوْعَانِ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ النَّافِعِ، وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَكِلَاهُمَا جَهْلٌ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا وَحَقِيقَةً، قَالَ مُوسَى {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لَمَّا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أَيْ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، 

وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أَيْ مِنْ مُرْتَكِبِي مَا حَرَّمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]

 قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا

وَسُمِّيَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْعِلْمِ جَهْلًا، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَهْلِ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِ بِسُوءِ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ فِعْلِهِ.

فَالْفِرَارُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْفِرَارُ مِنَ الْجَهْلَيْنِ: مِنَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ إِلَى تَحْصِيلِهِ، اعْتِقَادًا وَمَعْرِفَةً وَبَصِيرَةً، وَمِنْ جَهْلِ الْعَمَلِ إِلَى السَّعْيِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَصْدًا وَسَعْيًا.

قَوْلُهُ: وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا.
أَيْ يَفِرُّ مِنْ إِجَابَةِ دَاعِي الْكَسَلِ إِلَى دَاعِي الْعَمَلِ وَالتَّشْمِيرِ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ.

وَالْجِدُّ هَاهُنَا هُوَ صِدْقُ الْعَمَلِ، وَإِخْلَاصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْفُتُورِ، وَوُعُودِ التَّسْوِيفِ وَالتَّهَاوُنِ، وَهُوَ تَحْتَ السِّينِ وَسَوْفَ، وَعَسَى، وَلَعَلَّ، فَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ ثَمَرُهَا الْخُسْرَانُ وَالنَّدَامَاتُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجِدِّ وَالْعَزْمِ أَنَّ الْعَزْمَ صِدْقُ الْإِرَادَةِ وَاسْتِجْمَاعُهَا، وَالْجِدَّ صِدْقُ الْعَمَلِ وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَلَقِّي أَوَامِرِهِ بِالْعَزْمِ وَالْجِدِّ، فَقَالَ {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وَقَالَ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] وَقَالَ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَعَزْمٍ، لَا كَمَنْ يَأْخُذُ مَا أُمِرَ بِهِ بِتَرَدُّدٍ وَفُتُورٍ.

وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً.
يُرِيدُ هُرُوبَ الْعَبْدِ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ مَصَالِحِهِ، وَمَصَالِحِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَعَدُوِّهِ، يَهْرُبُ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى سَعَةِ فَضَاءِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الرَّجَاءِ لِجَمِيلِ صُنْعِهِ بِهِ، وَتَوَقُّعِ الْمَرْجُوِّ مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ، وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُمْ: لَا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ، وَهَذَا جَامِعٌ لِشَدَائِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَضَايِقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِلْمُتَّقِي مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَخْرَجًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِي مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي نَوَائِبِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، يَكْفِيهِ كُلَّ مَا أَهَمَّهُ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي {حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] كَافِينَا اللَّهُ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ، فَإِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ، وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ.


  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
ابو تامر

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي